تحرك الشارع اللبناني تضامناً مع الفلسطينيين: مؤشر لحيوية واعدة أو فورة لتنفيس الاحتقان؟
شهد الشارع اللبناني خلال الشهر الأول من الهجمة الإسرائيلية العسكرية على الشعب الفلسطيني وانتفاضته عاصفة لم تهدأ من التحركات الشعبية المتنوعة الأشكال والألوان والمنطلقات. لقد حفلت البلاد منذ الساعات الأولى من الهجمة بالمبادرات والمظاهرات والتحركات التي ابتدأت عفوية في اليوم الأول ثم أخذت تتنظم شيئاً فشيئاً حتى باتت حركة يومية طالت معظم المناطق وشملت كافة الفئات والقطاعات الشعبية وشاركت فيها قوى سياسية وحزبية وهيئات أهلية ومدنية فضلاً عن المسؤولين الروحيين.
إن أية محاولة لرصد كل ما حفلت به الساحة اللبنانية خلال تلك الفترة أمر في بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. لكن الإطلالة على ذلك مفيدة لما لتلك التحركات من مدلولات لتبيان مدى حيوية المجتمع المدني الأهلي وتوجهاته. وسوف نحاول في هذه الافتتاحية إيجاز حجم هذه التحركات وطبيعتها وأشكالها لتسليط الضوء على بعض النقاط التي قد تُغني النقاش.
شارك في التحركات الشعبية عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين (ذكوراً وإناثاً) الذين دفعوا بالتعبير بشكل صادق عن غضبهم إزاء الأحداث الأخيرة وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني وتأييدهم لانتفاضته ودعمهم لقضيته العادلة والمحقة.
تنوعت أشكال التحرك من تظاهرات جماهيرية إلى نشاطات مفتوحة ولقاءات واعتصامات رمزية ومبادرات فردية. كذلك شهدت البلاد سيلاً من المواقف والتصريحات التي توجهت إلى عدة أطراف لها علاقة بالتطورات. وقد أخذت التحركات زخماً كبيراً وكثيفاً دفع معظم الصحف التي جهدت في تغطيتها إلى تكريس مفكرة يومية لتلك النشاطات. تراوح حجم النشاطات والدعوات اليومية ما بين 10-20 تحركاً في اليوم الواحد، فضلاً عن التظاهرات الكبيرة التي كانت تجري في مناطق متعددة، أي بكلامٍ آخر أن الشهر الأول من التحرك الشعبي للتضامن مع الفلسطينيين شهد أكثر من 300 تحركاً مختلفاً.
لا شك أن أبرز أشكال التحرك كانت التظاهرات الجماهيرية التي تفاوتت من حيث الحجم والتي دعت إليها الأطراف السياسية والحزبية والشبابية والطلابية والنسائية والقطاعية، أفراداً أو مجموعات، وقد تراوح عدد المشاركين من بضعة آلاف إلى عشرات الآلاف. وكانت ذروة التظاهرات تلك التي دعا إليها الطلاب والأطر التعليمية والذي شارك فيها ما يقارب الـ75 ألفاً على مجمل الأراضي اللبنانية. واسترعى الانتباه على صعيد التحركات التي أطلقتها القوى السياسية والأحزاب انتظام تلك القوى والأحزاب وفقاً للتكتلات التالية: - القوى السياسية والحزبية المشاركة في أو المؤيدة للحكومة - حزب الله - قوى اليسار الجديد والوسط (تحالف المنبر واللقاء الديمقراطي وحركة التجديد وبعض أركان قرنة شهوان) - يسار التجمع الوطني للإنقاذ، إضافة إلى ندوة العمل الوطني والمؤتمر الشعبي - أحزاب وقوى إسلامية أخرى.
وغالباً ما كانت هذه التكتلات تدعو لتحركات منفردة. وفي بعض الحالات التي تداعت للتظاهر بصورة مشتركة كان التمايز بينها واضحاً خلال التظاهرات. برز في التحركات دور المنظمات الشبابية والجمعيات والهيئات الأهلية التي تخطت في كثافتها وديناميكيتها تحركات القوى والأحزاب السياسية. كذلك لوحظ نشاط النقابات العمالية والهيئات المهنية كالأطباء والمحامين والمهندسين خصوصاً في الفترة الأولى.
وكانت تظاهرات وتحركات الطلاب والقطاع التعليمي الأكثر استقطاباً للمشاركة تلتها تلك التي نظمتها الأحزاب والقوى السياسية فالنقابات والمنظمات الشبابية. أما دور الهيئات والجمعيات الأهلية فقد أخذ شكل الاعتصامات الرمزية والنشاطات الثقافية وحملات التبرع ورفع المذكرات. كان معظم نشاطات الهيئات الأهلية متمركزاً في بيروت وفي المدن اللبنانية الرئيسة الأخرى. كما عمل عدد كبير من الجمعيات ضمن إطار المظلات الأهلية التي جمع نحو 240 جمعية من الجمعيات الأكثر حضوراً. إلا أن الكثير من كبريات الجمعيات وكذلك الأخرى الأصغر حجماً وغير المنضوية تحت لواء المظلات الأهلية آثرت العمل منفردةً.
أما عنصر الشباب فكان أكثر ديناميكية وراديكالية في الطرح والممارسة مقارنة بتحركات الأحزاب والهيئات الأهلية الأخرى. لكن الملاحظ أن حركة القوى الشبابية، وإن كانت متواصلة لا تهدأ، بقيت محصورة النطاق من حيث حجمها ونطاقها الجغرافي.
كان الشباب أول المبادرين في الاعتصام في ساحة الشهداء ونصب خيمة دائمة لا تزال حتى تاريخ هذا العدد تجتذب الانتباه والناشطين والناشطات. أما الهيئات الأهلية فقد نصبت خيمتها مقابل الإسكوا بعد نحو أسبوع من اندلاع الأحداث وأزالتها بنهاية شهر نيسان الماضي. كذلك حذا حزب الله حذو القوى الشبابية ناصباً خيمة ثالثة في 15 نيسان لم تعمر أكثر من أسبوع واحد. وكما بالنسبة للأحزاب وتلويناتها كان ثمة تنوع وتباين بين المنظمات الشبابية "المنظمة" والأخرى المستقلة. وقررت الأخيرة الاستمرار بالاعتصام المفتوح حتى هذا التاريخ.
لوحظ مع مرور الوقت، وخصوصاً بعد اكتساح جيش العدو لمعظم البلدات الفلسطينية الواقعة في الضفة الغربية تضاؤلاً في حدة التحركات الشعبية وبدء بروز حركة ذات أفق أطول أمدا تدعو لمقاطعة البضائع الأميركية أو تلك الشركات المؤيدة لإسرائيل، تلعب المنظمات الشبابية ذات التوجه اليساري أو الإسلامي دوراً رئيسياً. على الرغم من أن الحملة المقاطعة هذه لا تزال في بدايتها، فإن الدلائل تشير إلى تعاطف شعبي عفوي وجيد مع أهداف الحملة في مقاطعة البضائع الأميركية. قد يكون ذلك أيضاً تعبيراً صادقاً وفردياً من الناس استنكاراً للمواقف الأميركية وتضامناً مع الفلسطينيين. وقد بين استطلاع أجرته الدولية للمعلومات حول مقاطعة المنتوجات الأميركية أن 45% من الذين تم استطلاعهم امتنعوا عن شرائها وأن 30% لم يزوروا الجامعات الأميركية منذ آخر آذار. (النهار، 12/4/2002) وقد لوحظ أن المنظمات الشبابية بدأت أخيراً تركز على التنسيق في ما بينها لزيادة فعالية الحملة.
بعد هذه اللمحة السريعة وغير الكاملة للتحركات التي جرت خلال شهر نيسان الماضي، نرى ضرورة إبراز بعض سماتها وهي:
- لقد اندفع الشارع بعفوية وزخم كبيرين للتعبير عن التضامن والاستنكار. وقد أخذت هذه التحركات تتسارع وتتنوع لكن دون اتخاذ بعداً استراتيجياً يؤهلها للتوسع.
- طالت التحركات كافة المناطق وخارج بيروت وإن لم تحظَ بالاهتمام الإعلامي المناسب.
- كانت إحدى السمات البارزة للتحركات المنافسة في الظهور الإعلامي وتشرذم التحركات. كما لوحظ أن قسماً من المناطق قد غابت عنها هذه التحركات.
- صحيح أن التضامن كان واحداً إلا أن سقف الشعارات التي رفعت كان متفاوتاً. في معظم الأحيان كانت الشعارات عامة ونظرية وتفتقر لرؤية عملية.
- لوحظ بشكل عام، تناغم كبير بين نبض الشارع والمواقف الرسمية لدرجة أن المسؤولين من مختلف الخلفيات سارعوا للمشاركة في بعض هذه التحركات. ومن الملفت أن معظم المذكرات والمطالب كانت توجه إلى الأمم المتحدة والسفارات الخ... إلا أن أهم ما ميّز هذه التحركات أنها افتقرت إلى هدف ومطالب محددة من الحكومة والمسؤولين.
- لم تكن التبرعات المالية سخية خصوصاً من قبل الفئات الميسورة التي تُسارع عادة إلى التبرع في مناسبات مثل شهر رمضان الكريم.