رغم التشكيك بجدواها مقاطعة السلع الأميركية تثبت أثرها لكنها تستدعي التطوير
تكاثرت خلال الأشهر الماضية الدعوات والتحركات الأهلية اللبنانية منها والعربية لمقاطعة البضائع الأميركية ومنتجات الشركات الداعمة لإسرائيل. وتزامنت هذه الدعوات والتحركات مع رد الفعل الشعبي على الاجتياح العسكري الإسرائيلي المستمر للمناطق الفلسطينية المحتلة والاحتجاج على المواقف الغربية الداعمة إجمالاً لسياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون.
صحيح أن هذا النوع من التحركات ليس جديداً إلا أنه يتميز بسمتين رئيستين؛ أولاً كونه يأتي نابعاً من سخط شعبي عربي عارم كما أنه ثمرة مبادرات مجموعات أهلية ومدنية خلافاً لما كان يحصل سابقاً حيث كانت دعوات المقاطعة موجهة من دوائر رسمية حكومية. أما السمة الثانية الأساسية فتتمثل في كون المسألة اتخذت شكلاً أكثر عمقاً واستراتيجياً من قبل. وتطال حملة المقاطعة عدداً كبيراً من الدول العربية انطلاقاً من البحرين والإمارات وحتى السعودية مروراً بلبنان وسوريا والأردن وصولاً إلى مصر والمغرب.
وفي لبنان، ارتفعت دعوات المقاطعة منذ الأسابيع الأولى للاجتياح العسكري الإسرائيلي بعدما تكشفت للرأي العام أبعاده الحقيقية ومدى حجم التأييد الرسمي الأميركي والعربي عموماً لسياسات شارون وكذلك الوهن والشلل العربي الرسمي تجاه تلك الأحداث. وقد انضوت تحت لواء حملة المقاطعة أطراف متنوعة ضمت عدداً من الجمعيات والهيئات النقابية والمجموعات الطلابية والشبابية وحتى بعض الشخصيات الدينية والسياسية وعدداً قليلاً من الأحزاب.
وبعد مرحلة أولى من العمل المنفرد لوحظ تأطر هذه المبادرات في تجمعات تشكلت على نطاق مناطقي أو إيديولوجي، فيما تمركزت التحركات في المدن الرئيسية (بيروت-طرابلس) بشكل رئيسي وفي صيدا وصور والنبطية بصورة ثانوية. شملت التحركات مجموعات طلابية وشبابية يسارية تنشط في بيروت، منها "تحركوا الآن"، وناديَيْ "الساحة" و"اللقاء"، أساتذة من الجامعة الأميركية في بيروت، "شبيبة حركة الشعب"، "اتحاد الشباب الديمقراطي"، "شباب الاعتصام المفتوح في ساحة الشهداء" في بيروت، ومجموعات وجمعيات ونقابات ورجال دين يغلب عليها الطابع الإسلامي في طرابلس.
وفي خطوة متقدمة ركّزت مجموعات المقاطعة بشكل عام والطلابية منها بشكل خاص، على إعداد لوائح بالشركات والمنتجات المستهدفة كما جمعت معلومات وفيرة حول طبيعة العلاقة بين الشركات المستهدفة وإسرائيل. وفي السياق نفسه دعا التجمع الأهلي لمناهضة العولمة في لبنان إلى مقاطعة السفارة الأميركية وبرامج مساعداتها في لبنان التزاماً وتضامناً مع أهل مدينة جنين وغيرها الذين رفضوا مساعدات الإغاثة التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى مدينتهم المنكوبة.
وكما هو متوقع، فإن هذه التحركات التي حافظت على طابع سلمي ما عدا حادثتين صغيرتين في الشويفات وطرابلس لقيت أصداءً متحفظة في أوساط تجارية، فيما اتسمت أخرى بالتشكيك من قبل عدد من السياسيين أبرزهم رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري الذي صرح للفضائية السورية عن اعتقاده أن مقاطعة المصالح الأميركية لا تؤدي إلى نتيجة. (المصدر: جريدة السفير، 24/4/2002)
بيد أن استطلاعات الرأي التي أجرتها الدولية للمعلومات أشارت إلى درجة التجاوب الشعبي بتوجه المقاطعة. وبيّنت الدولية للمعلومات أن 45% من المستطلعين قد امتنعوا عن شراء السلع الأميركية تعاطفاً مع الفلسطينيين واستنكاراً للموقف الأميركي. (المصدر: جريدة النهار، 12/5/2002). وفي ما أظهرت إحصاءات الجمارك اللبنانية أن إجمالي واردات لبنان من الولايات المتحدة تبلغ نحو 600 مليون دولار سنوياً، كما تشكل واردات الدخان والسجائر نحو 120 مليون دولار منها، أضافت الدولية للمعلومات إلى أن نسبة المدخنين للسجائر الأميركية من مجموع المستطلعين انخفض من 56% إلى 31.4%. كذلك هبط رواد مطاعم الوجبات السريعة الأميركية من نحو 50% إلى 22%، كما انخفض استهلاك المشروبات الغازية من 65% إلى 39%. (المصدر: جريدة النهار، 19/5/2002)
كذلك أبرز عدد من المقالات الصحفية مؤخراً نقلاً عن مصادر تجارية مدى الأثر الفعلي للمقاطعة الشعبية العربية على المبيعات والنتائج المالية للشركات الكبرى. وفي هذا السياق يتبين أن إجمالي خسائر الشركات الأميركية من دعوات المقاطعة العربية بلغت نحو 200 مليون دولار في الشهر الأول من الاجتياح الإسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية. (المصدر: جريدة الحياة، 27/4/2002). كذلك أوردت صحيفة الحياة في 19/4/2002 نقلاً عن شركة ماك دونالدز عملاق الوجبات السريعة أن أرباحها تراجعت بنسبة 16% في الفصل الأول من السنة الماضية نتيجة لعوامل عديدة منها الدعوات المنادية بمقاطعة الغزو الثقافي الأميركي ومنتجاته. وأخيراً ذكرت مصادر في دبي أن الصادرات الأميركية للسعودية هبطت بنحو 33% منذ بداية أيلول 2001 وحتى آذار الماضي كردة فعل من الشارع السعودي على تنامي الشعور المعادي للعرب في الولايات المتحدة. وقد أثار ذلك قلقاً لدى مسؤولي السفارة الأميركية في الرياض إذ صرح الملحق التجاري الأميركي "الواقع أن أثر المقاطعة ذات أهمية...نعم، نحن قلقون. لكن تكمن الصعوبة في رصد مدى حجم هذا الأثر في عدم توفر الدراسات الدقيقة حول هذا الموضوع".
بعد هذه الإطلالة السريعة حول جهود حملة المقاطعة في لبنان وآثارها الأولية، يحضرنا بعض الملاحظات حول أفق تلك الحملة ومستقبلها.
- تكمن أهمية هذا النوع من التحرك في كونه تعبيراً عن وعي شعبي متنامٍ بمدى ارتباط المصالح الاقتصادية العالمية ببعضها، وخصوصاً ارتباط الشركات الغربية والأميركية ومساهمتها في دعم الاقتصاد الإسرائيلي وآليته العسكرية.
- توفر حملة المقاطعة فرصة جديدة للبحث في الواقع الاقتصادي اللبناني والتفكير في استراتيجيات استهلاك وتوجهات للاندماج الاقتصادي الإقليمي والعربي يكون بديلاً لمشروع الشرق أوسطية أو المتوسطية ويتلاءم أكثر مع التطلعات السياسية للأوساط الشعبية والمدنية.
- إن الانضمام لحملة المقاطعة على صعيد النشاطات العامة أو مقاطعة السلع واستبدالها هو شكل من أشكال المقاومة الذاتية والسلمية للأمر الواقع الحالي وما هو سوى تجسيد لإرادة فردية تسعى لأن تتحول إدارة جَمْعيّة حرة.
- أما المطلوب، فهو تطوير شكل الحملة ومضمونها وأفقها كي تتسم ببعد أكثر استراتيجية بحيث يتم التركيز ليس فقط على البدائل الاستهلاكية بل أيضاً على إيجاد خيارات إنتاجية وخدماتية اقتصادية تسد الاحتياجات الاستهلاكية للشعوب العربية وترتكز على أسس من التعامل التفاضلي والتضامني بين المجتمعات الأهلية والمدنية وفي إطار منظور واضح وعملي للواقع الحالي للعولمة.