أول تقرير للتنمية الإنسانية في العالم العربي: جرأة في الطرح وافتقار للحلول العملية
صدر في مطلع الشهر الجاري أول تقرير عن التنمية الإنسانية في العالم العربي، وذلك تحت عنوان خلق الفرص للأجيال المقبلة. وقد أثار التقرير عند صدوره موجةً من التعليقات بشأن محتوياته وخلفيّاته جاء بعضها مؤيّداً وحتى مهلّلاً والبعض الآخر منتقداً أو عاتباً. لكن غالبيّة الردود على التقرير اعتبرته حدثاً بارزاً لكونه طرح إشكالية التنمية المستدامة في العالم العربي بأسلوب الأمم المتحدة، لكن من وجهة نظر عربية. شارك في صياغة التقرير كوكبة من المثقفين والخبراء والأكاديميين ترأستها ريما خلف الهنيدي، مساعدة أمين عام الأمم المتحدة ومساعدة المدير العام للاسكوا ووكيل وزارة المالية الأردنية سابقاً. وضمّ فريق العمل الاستشاري أسماءً لامعةً مثل أحمد بن بيتور وأسامة الخولي وأنطوان زحلان وبرهان غليون وكلوفيس مقصود. أما المؤلف الرئيسي للتقرير الذي تضمن ثمانية فصول فهو نادر فرجاني.
استهل التقرير بمقدمة بعنوان نظرة عامة: مستقبل للجميع. تبعته الفصول الثمانية التي غطّت المواضيع التالية:
1- التنمية الإنسانية: التعريف والمفاهيم والسياق الواسع
2- حال التنمية الإنسانية في البلدان العربية
3- بناء القدرة البشرية: العناصر الأساسية – الحياة والصحة والبيئة
4- بناء القدرة البشرية: التعليم
5- توظيف القدرات البشرية: نحو مجتمع المعرفة
6- توظيف القدرات البشرية: استعادة النمو الاقتصادي وتخفيف حدّة الفقر
7- الحكم والتنمية الإنسانية
8- التعاون العربي
في المؤشرات والإحصاءات:
أبرز التقرير عدداً كبيراً من المؤشرات والأرقام الإحصائية الاقتصادية منها والاجتماعية التي طالت جوانباً متعدّدة من قضايا التنمية والفقر ومشاركة المرأة والحكم والاستقرار السياسي في العالم العربي.
و من الأرقام الواردة في التقرير نورد الآتي:
- انخفضت إنتاجية عناصر الإنتاج بمعدل سنوي يعادل 0,2% خلال الفترة 1960-1990، في وقت تسارعت فيه في مناطق أخرى في العالم. والفجوة آخذة في الاتساع.
- تضاءل الناتج المحلي للفرد إلى نصف مثيله في كوريا. بينما كان أعلى من معدل الناتج للفرد في منطقة النمور الآسيوية عام 1960.
- انخفضت إنتاجية العامل الصناعي العربي من 32% من إنتاجية مثيلة في أميركا الشمالية عام 1960 إلى 19% منها عام 1990. وما زالت تتدنى.
- ما زال هناك تفاوت كبير بين الدول العربية وفي كل منها. فهناك تفاوت ملحوظ في نسبة وفيات الأطفال دون الخامسة. وهناك تحد صحي خطير هو ارتفاع نسبة توقف النمو (التقزم) التي قد تتجاوز 50% من الأطفال دون الخامسة في بعض البلدان الفقيرة وتلك التي تعاني من النزاعات. وتعتبر حوادث الطرق والتدخين من المسببات المهمة للوفاة. في عام 1998 لقي 182 ألف عربي حتفهم من جراء أمراض تتعلق بالتدخين. وصحيح أن مرض نقص المناعة المكتسبة وجوده نادر في المنطقة إلا أنه ما زال أمراً يدعو إلى القلق.
- تنفق معظم الدول العربية 4% من الناتج الإجمالي المحلي على الصحة وهذا أقل من إنفاق الدول ذات الدخل المتوسط التي تنفق 5,7%. وتؤثر برامج إصلاح القطاع الصحي سلباً على الفئات الضعيفة في المجتمع.
- إن النسبة التي تنفقها الدول العربية مجتمعة من دخلها على التعليم هي أعلى منها في الدول النامية الأخرى. فعام 1995 بلغت نسبة طلاب المرحلة الابتدائية أكثر من 90% للذكور و75% للإناث في حين أنها للمرحلة الثانوية بلغت ما يقارب الـ60% من للذكور والـ50% للإناث. ورغم ذلك فهناك عشرة ملايين طفل بين السادسة والـ15 خارج النظام التعليمي. وتبقى نسبة الالتحاق بالتعليم العالي محدودة لا تتجاوز 13%. ومع أن هذه النسبة أعلى من مثيلتها في الدول النامية (9%). إلا أنها ما زالت أدنى بكثير من النسب السائدة في الدول الصناعية والتي تصل إلى 60%.
- تتسم الدول العربية بانخفاض مستوى الفقر المدقع فيها مقارنة بكل مجموعات الدول النامية الأخرى. ورغم ذلك ما زال واحد من بين 5 من العرب يقل دخله عن دولارين في اليوم. وما زال فقر القدرات أكثر استشراء بسبب ارتفاع نسبة الأمية وانحسار فرص التعليم والتعلم.
- قدّر حجم البطالة السافرة في الدول العربية بما لا يقل عن 12 مليون عاطل عن العمل عام 1995 أي ما يوازي 15% من قوة العمل. وإذا استمرت هذه الاتجاهات فمن المتوقع أن يصل عدد العاطلين عن العمل إلى نحو 25 مليوناً بحلول سنة 2010.
- تبقى نسبة استخدام طاقات المرأة العربية عبر المشاركة السياسية والاقتصادية الأكثر تدنياً في العالم. فما زالت المرأة العربية تحتل 3,5% فقط من مقاعد البرلمانات في الدول العربية مقارنة بنحو 11% من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء و12% في أميركا اللاتينية والكاريبي. وفي عدد من البلدان العربية تعاني النساء أيضاً عدم المساواة في حقوقهن كمواطنات وفي الحقوق القانونية.
- شكلت النفقات العلمية عام 1996، 0.14 % فقط من الناتج الإجمالي العربي مقارنة بـِ 1.26 لكوبا و2.9% لليابان عام 1995. كما نجد أن الاستثمار في البحث والتطوير أقل من سبع المعدل العالمي.
- إن استخدام المعلوماتية في الدول العربية أقل من أي منطقة أخرى في العالم. حيث لا تتجاوز نسبة مستخدمي الإنترنت 0.6%، ويملك 1.2% فقط من المواطنين العرب جهاز كمبيوتر شخصياً. (النهار 5/7/2002)
في الاستنتاجات:
جاءت تلك الإحصاءات لتعزز الصورة الداكنة لأوضاع التنمية المستدامة والإنسانية في البلدان العربية. وتلك صورة كانت قد تكونت منذ أمد طويل وتم الإشارة إليها تكراراً وبشيءٍ من التفصيل في العديد من المؤتمرات الإقليمية التي نظمتها الأمم المتحدة والإسكوا حول شؤون التنمية. لكن الملفت في التقرير محاولته تقديم عرض شامل وشمولي للواقع وتشخيص دقيق له مع طرح استنتاجات عامة وتقديم إجابات أولية حول أسباب هذا الواقع غير السعيد. ومن أهم ما جاء في التقرير بهذا الخصوص:
أ) التنمية الإنسانية في المنطقة لا ترقى إلى مستوى غناها
ب) النساء العربيات يتقدمن بسرعة لكن الطريق أمامهن لا يزال طويلاً
ج) تحتاج الاقتصادات العربية إلى نمو سريع يقوم على قاعدة متينة من المعرفة
د) على صعيد الدخل الفردي، يرى التقرير أن المواطن العربي العادي سوف يحتاج إلى 14 سنة لمضاعفة مدخوله في حين يحتاج الفرد العادي إلى أقل من 10 سنوات في مناطق أخرى من العالم لتحقيق ذلك
ه) التعاون العربي كان حلماً وأصبح ضرورة للبقاء وللمنافسة.
ويستنتج التقرير أن العائق الذي يحول دون تحسن الكفاية العربية ليس الافتقار إلى الموارد، بل النقص المؤسف في ثلاثة عناصر جوهرية، ألا وهي الحرية والمعرفة والطاقة النسائية. ويؤكد التقرير أن تلك هي النواقص التي تحول دون تحقيق العرب المحبطين كل ما تخوّلهم إمكاناتهم تحقيقه، والتي تدفع في الوقت نفسه بقية العالم إلى أن يحتقر هذا المزيج القاتل من الثراء والتخلف، وأن يخافه في آن واحد. (النهار 9/7/2002)
بناء على تحليل الأمم المتحدة، يفسر النقص في الحرية عدداً كبيراً من المساوئ الأساسية التي يشكو منها العالم العربي: استمرار النظام الأوتوقراطي المطلق وإجراء انتخابات زائفة والمزج بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والقيود المفروضة على الوسائل الإعلامية وعلى المجتمع المدني، بالإضافة إلى محيط اجتماعي أبوي ومتعصب وخانق أحياناً. وتحفل المنطقة بزخارف الديمقراطية الخارجية، إذ تعقد الانتخابات وتوقع معاهدات حقوق الإنسان. إلا أن الموجة الديمقراطية العظيمة التي اجتاحت قسماً كبيراً من العالم خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة لم تطلْ على ما يبدو البلدان العربية. وقد تمارس الديمقراطية في بعض الأحيان، إلا أنها تقدّم كامتياز لا كحق. أما حرية التعبير وحرية تشكيل الجمعيات والهيئات، فمحدودتان للغاية. ويستشهد التقرير بما أشارت إليه منظمة Freedom House الأميركية المختصة بمراقبة الحقوق السياسية والمدنية، من أنه ليس ثمة وسيلة إعلامية حرة فعلاً في أي من البلدان العربية: ثلاثة بلدان فقط تملك وسائل إعلامية "حرة جزئياً، أما الأخرى فغير حرة على الإطلاق.
أما النقص في المعرفة فمهول بالقدر نفسه. فرغم أن نسبة الناتج المحلي التي ينفقها العرب على التعليم هي أعلى منها في أي منطقة نامية أخرى، إلا أن هذه الأموال لا تنفق على ما يبدو بشكل فاعل. فنوعية التعليم قد تدهورت إلى حد مؤسف، وثمة انعدام تناسب صارخ بين سوق العمل والنظام التعليمي.
ويرى التقرير أن المعاملة السيئة التي تعانيها النساء هي هدر مريع للإمكانات: فكيف يمكن لمجتمع أن يزدهر حين يعيق تقدم نصف طاقته الإنتاجية؟ إذ أن نصف النساء العربيات لا يجدن القراءة ولا الكتابة، ومشاركتهن في حياة بلدانهن السياسية والاقتصادية هي الأقل في العالم. تختلف الحكومات والمجتمعات في درجات المعاملة السيئة التي تخص بها النساء، لكن النساء يعانين، في كل البلدان العربية تقريباً، انعدام المساواة في وضعهن المواطني وحقوقهن القانونية. ويملك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي "مقياساً للمساواة بين الجنسين" يظهر بحسبه العرب في أسفل اللائحة تقريباً (وبحسب هذا المقياس، تحتل إفريقيا جنوب الصحراء مرتبة أسوأ). إلا أن الأمم المتحدة تمكنت من تقويم هذه الناحية في 14 دولة فحسب من الدول العربية الاثنتين والعشرين، بما أن المعلومات اللازمة غير متوافرة في الدول الأخرى. (نقلاً عن الإيكونوميست - The Economist).
ملاحظات عامة:
وبالطبع تقدم التقرير بسلسلة من الاقتراحات العامة التي ترمي إلى الخروج من مأزق التنمية العربية. وتوزعت تلك الاقتراحات على كافة القضايا التي عالجها التقرير مع التركيز على الإشكاليات الثلاث الأساسية التي شخصها التقرير: وضع المرأة، الحكم الصالح وتطوير المعرفة.
شدد بعض الردود على أن التقرير لم يأت بجديد من حيث استعراض الواقع العربي سوى لجهة تشخيصه لمواقع الخلل. وانتقد البعض الآخر مقدمة التقرير التي أشارت إلى تأثير الوجود العدواني لإسرائيل وإعاقته لكافة جهود التنمية. وقد وجد المنتقدون في هذا الموقف تنازلاً للحكومات العربية وشيئاً من التبرير لتقصير تلك الحكومات على الرغم من الحيز الكبير الذي خصصه التقرير لموضوع الحكم الصالح. ومن الانتقادات الأساسية، غلبة النظرة التشاؤمية الشاملة والعامة للتقرير الذي ترك انطباعاً بأنه ليس ثمة آمال كبيرة لإحداث عملية تغيير من الداخل. كذلك، فإن الدعوة لاستنهاض وتطوير المجتمعات المدنية ومنظماتها تبقى في نظر البعض عرضة للشكوك خصوصاً أن التقرير لم يقدم تشخيصاً مقنعاً حول طبيعة وأساليب عمل تلك المنظمات. هل هي بمنأى عن كافة الإشكاليات ومواقع الخلل التي تطرق إليها التقرير؟
وختاماً نشير إلى ثلاثة انتقادات أساسية أخرى حول جوانب غابت عن التقرير:
1. لم يوضح كيفية إيجاد الموارد المالية الإضافية اللازمة لترجمة الاقتراحات إلى إجراءات عملية.
2. على الرغم من طابعه الراديكالي وإشارته إلى أهمية محاربة ظاهرة الفقر فإنه لم يتطرق بشكلٍ كافٍ إلى ضرورة إعادة توزيع الثروات بصورة عادلة داخل البلد الواحد وبين البلدان العربية على الرغم من تشديده على أهمية العمل العربي المشترك.
3. لم يفرد التقرير الحيز الكافي لآثار الاختلالات الاقتصادية العالمية في عالم تهيمن عليه الشركات الكبرى أو لنقد السياسات الاقتصادية التي تنتهجها وتروج لها المؤسسات المالية الدولية.