فشل مؤتمر كانكون يضغف منظمة التجارة العالمية ويشجع الانفرادية
المفاوضات حول تحرير التجارة العالمية في طريق مسدود
بعد فشل مؤتمر كانكون لتحرير التجارة العالمية ينتاب الغموض مستقبل المفاوضات التي أطلقت خلال مؤتمر منظمة التجارة العالمية الذي عُقد في الدوحة في تشرين الثاني/نوفمبر 2001.
ومع فشل تلك المفاوضات كثرت التساؤلات حول مستقبل الاقتصاد العالمي الحالي السائد منذ العقدين الماضيين والذي اصطلح على تسميته بالعولمة. يكتسي هذا الموضوع أهمية بالغة بالنسبة لكافة شعوب العالم، لا سيما شعوب الدول النامية والفقيرة ومن بينها شعوب المنطقة العربية التي لا تزال تواجه تحديات مصيرية زادتها حدة الأحداث المتلاحقة التي أفرزتها عملية 11 أيلول/سبتمبر.
جاءت نتيجة مؤتمر كانكون مفاجأة بالنسبة للمراقبين اجمالاً على الرغم من عدد من المؤشرات التي دلّت على تصلّب مواقف الدول المعنيّة المتقدّمة والنامية منها، وكذلك النوايا المعلنة لعدد من المنظّمات الأهلية وغير الحكومية المناهضة لمسار العولمة الحالي والراغبة في إفشال المفاوضات.
أظهرت التحضيرات وجولات المفاوضات الفرعية التي سبقت مؤتمر كانكون من جهة مدى التباين بين مواقف الطرفين الرئيسيين (الدول المتقدمة والدول النامية والفقيرة) حول العديد من القضايا الاقتصادية والتنموية الأساسية وخصوصاً مسألة فتح الأسواق العالمية أمام السلع الزراعية، ومن جهة ثانية تزايد حدة الاستقطاب بين المعسكرين على حساب التباينات التي كانت سائدة داخل المعسكر الواحد. وينطبق ذلك خصوصاً على الخلافات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن المنتوجات الزراعية. وفي هذا السياق، استبقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي انعقاد مؤتمر كانكون بالتوصّل إلى تفاهم حول المسألة الزراعية حيث قام الطرفان بوضع مسودّة اقتراحات للمؤتمر وصفها معظم الدول النامية والفقيرة بغير الواقعية وبأنها لا تفي بالحد الأدنى من مستلزمات التفاوض. من جهة نظر الدول الناحية، تكمن العقبة الكأداء في وجه تقدّم المفاوضات، في الدعم المالي غير العادل الذي تقدّمه الدول المتقدّمة لمنتوجات مزارعيها والذي يناهز 300 مليار دولار.
وفي محاولة لرصّ الصفوف، توصّل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى تفاهم في منتصف آب/أغسطس الماضي يقضي بتعديل معايير وآلية دعم مزارعي كلا الطرفين عبر فكّ الارتباط بين حجم الدعم المالي المقدّم إليهم وحجم الانتاج الزراعي. وكان الاتحاد الأوروبي قد خطا خطوةً مماثلة قبل ذلك بنحو شهر واحد مدخلاً تعديلات مهمّة وأساسية في سياسته الزراعية، لكن دون المسّ بحجم المساعدات الضخمة التي تُبقي على تدنّي منتوجاته الزراعية وعلى قوتها التنافسيّة في مواجهة الدول المتقدمة العضوة في مجموعة Cairns (التي تضمّ استراليا، البرازيل، الهند، الصين، الأرجنتين، الخ.)
جاء الاتفاق الأميركي الأوروبي بمثابة خطوة تكتيكية لدفع المفاوضات في كانكون. من جهتها، كانت الدول النامية الرئيسة قد قامت بتنسيق مواقفها على قاعدة ضرورة أن تقدّم الدول المتقدّمة تنازلات ذات شأن حول موضوع فتح الأسواق الزراعية لمنتوجاتها وإحراز تقدّم في هذا المجال قبل التطرّق إلى أي مسألة أخرى. لكن ما فجّر مفاوضات كانكون كان إصرار الدول المتقدّمة على عدم تقديم أي تنازلات جديدة حول الملف الزراعي وربط أي تقدّم بتنازلات من الدول النامية تكفل تحرير أسواق تلك الأخيرة أمام استثمارات الشركات المتعدّدة الجنسيات والتابعة للدول المتقدمة، الأمر الذي رفضته الدول النامية وأدّى إلى قطع المفاوضات.
والآن ماذا بعد كانكون؟ هل وصلت جولة المفاوضات حول تحرير التجارة والتبادل العالميين إلى طريق مسدود؟ والجدير بالذكر بأن المؤتمرين في الدوحة في العام 2001 كانوا قد اتفقا أن تُنجز دورة المفاوضات الحالية في نهاية العام 2004، وهو أمر بات الآن صعب المنال.
وقد بدى التخبّط واضحاً في مواقف المؤسسات المالية الدولية خلال المؤتمر السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين حيث سعى مسؤولو هاتين المؤسستين إلى التقليل من حجم المأزق والإعراب عن تفاؤل حذر، مؤكدين على اعتقادهم بأن فشل كانكون قد لا يكون سوى انتكاسة مؤقتة سوف تشكّل حافزاً لإيجاد مخرج جديد لاستئناف المفاوضات. وقد طالب مسؤولو البنك الدولي الدول المتقدّمة بمزيد من التنازلات في الملف الزراعي وبمبادرة الدول النامية للعودة إلى المفاوضات. وشدّد البنك الدولي على أهمية عملية التفاوض وانعكاساتها الايجابية على نمو الاقتصاد العالمي وعلى تعزيز فرص التنمية في الدول الأقل تطوّراً.
لكن بعض المراقبين والناشطين لا يرى امكان سدّ الهوة في المواقف بين الطرفين الرئيسين. ومن شأن استمرار ذلك المس بمصداقية منظمة التجارة العالمية ودورها كمنظم ونقطة تحكيم للعلاقات التجارية بين البلدان.
ويتوقع البعض الآخر ان يفضي توقف المفاوضات الى تشجيع الانفرادية ولجوء الدول الى عقد اتفاقات ثنائية على حساب منظومة دولية للتبادل الحر. وتبرز الولايات المتحدة كأول المرشحين في هذا الاتجاه. ويرى المحلّلون ان هذا المنحى الاميركي الجديد لن يكون سوى انعكاس جديد على الصعيدين الاقتصادي والتجاري لتفرّدها السياسي- العسكري الذي دأبت عليه منذ احداث 11 ايلول ولا سيما الحرب على العراق.
من جهتها وفي مؤشر آخر يدعم هذه التوقعات بدأت البرازيل بتكثيف اتصالاتها مع جيرانها في امريكا اللاتينية بهدف تعزيز اتفاقات التبادل التجاري المبرمة بينها وصولاً الى خلق منطقة تجارة حرّة امريكية لاتينيّة منافسة للتكتّل الاقليمي الاوسع الذي تنوي الولايات المتحدة تزعّمه في القارة.